الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة} كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالًا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانًا لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسوله بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع تهديدًا للمستعجلين وإسكانًا للممتحنين بقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} شيئًا قريبًا أو لأن الساعة في معنى الزمان {إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} نارًا شديدة الاتقاد {خالدين فِيهَا أَبَدًا} هذا يرد مذهب الجهمية لأنهم يزعمون أن الجنة والنار تفنيان.ولا وقف على {سَعِيرًا} لأن قوله: {خالدين فِيهَا} حال عن الضمير في {لَهُمْ}.{لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} ناصرًا يمنعهم.اذكر {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ في النار} تصرّف في الجهات كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت، وخصصت الوجوه لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده أو يكون الوجه عبارة عن الجملة {يَقُولُونَ} حال {ياليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} فنتخلص من هذا العذاب فتمنوا حين لا ينفعهم التمني {وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} جمع سيد.{ساداتنا} شامي وسهل ويعقوب جمع الجمع، والمراد رؤساء الكفرة الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم {وَكُبَرَاءنَا} ذوي الأسنان منا أو علماءنا {فَأَضَلُّونَا السبيلا} يقال: ضل السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف {رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} للضلال والإضلال {والعنهم لَعْنًا كَبِيرًا} بالباء عاصم ليدل على أشد اللعن وأعظمه، وغيره بالثاء تكثيرًا لأعداد اللعائن.ونزل في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قاله بعض الناس {يا أيّها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ} ما مصدرية أو موصولة، وأيهما كان فالمراد البراءة عن مضمون القول ومؤاده وهو الأمر المعيب.وأذى موسى عليه السلام هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها أواتهامهم إياه بقتل هرون فأحياه الله تعالى فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام كما برأ نبينا عليه السلام بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهًا} ذا جاه ومنزلة مستجاب الدعوة.وقرأ ابن مسعود والأعمش {وَكَانَ عَبْدًا للَّهِ وَجِيهًا}.{يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} صدقًا وصوابًا أو قاصدًا إلى الحق.والسداد: القصد إلى الحق والقول بالعدل والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول والبعث على أن يسددوا قولهم في كل باب، لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس كل خير.ولا تقف على {سَدِيدًا} لأن جواب الأمر قوله: {يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} يقبل طاعتكم أو يوفقكم لصالح العمل {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي يمحها.والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها.وهذه الآية مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.ولما علق بالطاعة الفوز العظيم بقوله: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أتبعه قوله.{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} وهو يريد بالأمانة الطاعة لله وبحمل الأمانة الخيانة.يقال: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها أي يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، إذ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ولهذا يقال: ركبته الديون ولي عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حامل لها يعني أن هذا الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها وهو ما يأتي من الجمادات، وأطاعت له الطاعة التي تليق بها حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادًا وتكوينًا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة كما قال: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].وأخبر أن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب يسجدون لله وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله، وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع، وهذا معنى قوله: {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} أي أبين الخيانة فيها وأن لا يؤدينها {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} وخفن من الخيانة فيها {وَحَمَلَهَا الإنسان} أي خان فيها وأبى أن لا يؤديها {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} لكونه تاركًا لأداء الأمانة {جَهُولًا} لإخطائه ما يساعده مع تمكنه منه وهو أداؤها.قال الزجاج: الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا ولم يطيعا.ومن أطاع من الأنبياء والمؤمنين فلا يقال كان ظلومًا جهولًا.وقيل: معنى الآية أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها وضمنها ثم خاس بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم من ذلك قولهم لو قيل للشحم أين تذهب لقال أسوي العوج.واللام في {لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} للتعليل لأن التعذيب هنا نظير التأديب في قولك ضربته للتأديب فلا تقف على {جَهُولًا} {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} وقرأ الأعمش {وَيَتُوبُ الله} بالرفع ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ويبتديء {وَيَتُوبَ الله} ومعنى المشهورة ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها لأنه إذا تيب على الوافي كان نوعًا من عذاب الغادر، أو للعاقبة أي حملها الإنسان فآل الآمر إلى تعذيب الأشقياء وقبول توبة السعداء {وَكَانَ الله غَفُورًا} للتائبين {رَّحِيمًا} بعباده المؤمنين والله الموفق للصواب. اهـ.
|